سورة ص - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)} [ص: 38/ 1- 16].
افتتحت سورة (ص) بهذا الحرف للتنبيه لما يأتي بعدها، وللتحدي وإثبات إعجاز القرآن بأنه متكون من أمثال هذا الحرف، فهل يمكن للعرب معارضته؟ وتالله إن القرآن الكريم كلام اللّه المعجز، وإن محمدا لصادق في نبوته، وإن القرآن ذو شرف ورفعة باقية خالدة ويختص حرف (ص) في هذا الموضع بأن معناه: صدق الله وصدق رسوله محمد.
بل إن الذين أشركوا في استكبار عن قبول الحق والإيمان به، ومخالفة لله ورسوله، ومعاندة ومكابرة، وكثيرا ما أهلك اللّه من قبل مشركي قريش كثيرا من الأمم الخالية، بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من عند اللّه تعالى، ونادوا حين نزول العذاب بهم طالبين النجاة والغوث، فلم يفدهم النداء وقتئذ شيئا، لأن الوقت ليس وقت خلاص وفرار من العذاب بعد المعاينة، والقرن: الأمة من الناس في زمن واحد.
وتعجب مشركو مكة من إرسال رسول مبشر ومنذر منهم ومن أنفسهم وعروبتهم، وقالوا لما رأوا معجزاته الباهرة: هذا ساحر خداع كذاب فيما يدعيه من النبوة. وهذا دليل على أنهم كذبوا الرسول من غير حجة ولا برهان.
ثم رد اللّه تعالى على شبهات ثلاث للمشركين تتعلق بالألوهية أو التوحيد، وبالنبوة، وبالمعاد. أما توحيد الإله: فلم يؤمنوا به وقالوا: أصير محمد الآلهة إلها واحدا، وهو الله؟ إن هذا لشيء غريب عجيب، بالغ النهاية في العجب. وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب قائلين: امضوا على ما كنتم فيه، واثبتوا على عبادة آلهتكم، واصبروا على التمسك بها. ما سمعنا بهذه الدعوة إلى توحيد الإله في آخر الملل وهي النصرانية، وما هذا إلا افتراء وكذب، لا حقيقة له، ولا مستند من الوحي والدين السماوي.
وأما النبوة: فأنكروا نبوة محمد قائلين: كيف ينزل القرآن على محمد دوننا، ونحن الرؤساء والأشراف؟ بل الحقيقة إنهم في شك من القرآن أو الوحي، وهذا الشك لأنهم لم يذوقوا العذاب الإلهي، فإذا تعرضوا له صدّقوا بالقرآن، وزال عنهم الشك، ولو ذاقوا العذاب، لتحققوا أن هذه الرسالة حق، أي إنهم لجهالتهم لا يبين لهم النظر، وإنما يبين لهم مباشرة العذاب.
فرد اللّه تعالى عليهم: بل إنهم باستبعادهم رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، هل يملكون مفاتيح خزائن اللّه ونعمه البالغة ورحمته التي فيها الهدى والنبوة وكل فضل، واللّه هو المانح لهذه النعم الكثير المواهب، حتى يعطوا نعمة النبوة لمن يشاءون؟ والخزائن للرحمة:
مستعارة، كأن المعنى: موضع جمعها وحفظها. بل أهم يملكون السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات والعوالم، فإن فرض أنهم يملكون، فليصعدوا في المعارج التي توصلهم إلى السماء، حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع. إنهم حقيرون ذليلون، وما هم إلا جند مغلوبون هنالك حيث يتحزبون فيه على المؤمنين.
وكلمة (أم) فيها معنى الإضراب عن الكلام الأول، والاستفهام، وقدرها سيبويه ب (بل والألف) كقول العرب: «إنها لإبل أم شاء». والإشارة ب (هنالك) في قوله تعالى: {جُنْدٌ ما هُنالِكَ} إشارة إلى الارتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك هم جند مهزوم، من جملة الأحزاب والأمم المتعصبين في الباطل، والمكذبي الرسل، فأخذهم اللّه تعالى. و(ما) في قوله {جُنْدٌ} ما زائدة مؤكّدة، وفيها تخصيص.
ثم قارن اللّه وضع قريش بأمثالهم الغابرين، فلقد كذبت الرسل قبل قريش، قوم نوح، وقبيلة عاد، وفرعون ذو الأوتاد، أي المباني العظيمة الثابتة، والحكم الراسخ، وقبيلة ثمود قوم صالح، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، أي غيضة الشجر، أولئك الأحزاب، أي الموصوفون بالقوة والكثرة، كمن تحزب عليك أيها النبي عام الخندق بالمدينة.
لقد كذب كل هؤلاء الأقوام رسلهم الكرام، فوجب العقاب الإلهي لهم، جزاء وفاقا. وما ينتظر كفار قريش إلا عقابا بنفخة الساعة التي هي النفخة الثانية- نفخة الفزع التي ينفخها إسرافيل، فتطال جميع أهل السماوات والأرض إلا من استثنى الله، وليس لتلك النفخة انتظار كالمهلة التي بين الحلبتين، بل هي متصلة حتى مهلكهم.
وقال مشركو مكة وأمثالهم تهكما واستهزاء حين سمعوا بتهديد العذاب في الآخرة: ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به، ولا تؤخره إلى يوم القيامة. وهذا إنكار من اللّه على المشركين في مطالبتهم بتعجيل العذاب، وهو يتضمن إنكارهم البعث.
نعم اللّه على داود عليه السّلام وفصله في الخصومة بين رجلين:
توالت الأخبار وإيراد قصص الأنبياء السابقين في القرآن الكريم، لتذكّر أحوالهم، والتأسي بهم في صبرهم على أذى أقوامهم، محتسبين الأجر عند اللّه تعالى. وكان الخطاب فيها للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليتأسى بهم، ويهوّن عليه إعراض قومه عن دعوته، فتلك هي سيرة الأقوام الماضين مع رسلهم، وفي تلك القصص بيان أنواع النعم الإلهية التي أنعم اللّه بها على أولئك الأنبياء في صراعهم مع أقوامهم، وصبرهم عليهم، ثم نجاتهم وتدمير أعدائهم.
وهذه قصة نبي اللّه داود عليه السّلام، وهي قصة مثيرة للعجب والعبرة، قال الله تعالى:


{اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)} [ص: 38/ 17- 26].
تضمنت الآيات بيان عشر صفات لداود عليه السّلام أنعم اللّه بها عليه، وهي:
اصبر أيها النبي محمد على ما يتقوله قومك من الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف، ولا تلتفت إليها، واذكر عبدنا داود ذا القوة في الدين والصّدع به، فتأسّ به وتأيد كما تأيد. والأيد: القوة، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوة الطاعة. وهو الأوّاب: الرجاع إلى طاعة اللّه تعالى في جميع أموره وشؤونه. وهو الصبور على طاعة اللّه تعالى.
وهو عبد اللّه محقّق معنى العبودية بمعنى التذلل والخضوع والانقياد والاجتهاد في الطاعة. وهذه أربع صفات، والخامسة والسادسة: أن اللّه تعالى سخر الجبال والطير معه وذللها، تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار.
والسابعة: جمع الطيور وجعلها مع الجبال مطيعة له، تسبح اللّه تبعا له، حال كون الطيور محبوسة في الهواء، فكلما سبّح داود جاوبته، وهذا يدل على أن داود عليه السّلام كان حسن الترتيل، جميل الصوت.
والثامنة: قوة الملك، فقد قوينا ملكه وأيدناه بكل ما وهبناه إياه من قوة وجند ونعمة.
والتاسعة: إيتاء الحكمة، فإنا أعطيناه الفهم والعقل والفطنة وفهم الدين وجودة النظر، والعلم الذي لا ترده العقول، والعدل، وإتقان العمل والحكم السديد.
والعاشرة: حسن الفصل في الخصومات، فإنا ألهمناه حسن الفصل في القضاء بين الناس بالحق، وإصابته وفهمه، وإيجاز البيان، ومنها إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي، وكان إذا خاطب في مسألة، فصّل المعنى وأوضحه، لا يتلكأ، ولا يعجز عن البيان، ولا يعتريه ضعف، فكان كلامه عليه السّلام فصلا.
ومن قضائه أنه تسلق عليه المحراب في يوم العبادة وفي غير يوم المحاكمة رجلان، ففزع منهم، فقالا له: لا تخف، نحن متخاصمان جار بعضنا على بعض، فاحكم بيننا حكما عادلا، ولا تتجاوز الحق في الحكم ولا تبعد في الحكم، واهدنا أو أرشدنا إلى طريق الحق والعدل. وسواء الصراط: وسطه والواضح منه.
واستفتحت الآيات بالاستفهام: {وَهَلْ أَتاكَ...} تعجبا من القصة وتفخيما لها. وعبر عن الاثنين بالجمع: {تَسَوَّرُوا} و{دَخَلُوا} و{قالُوا} على جهة التجوز في العبارة عن الاثنين، بلفظ الجمع. والمحراب: الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد. وفزعه بسبب دخولهم من غير الباب ودون استئذان.
وموضوع الخصومة: إن هذا أخ لي في الدين والإنسانية، يملك تسعا وتسعين شاة، وأملك أنا شاة واحدة، فقال: ملّكنيها، وغلبني في المخاصمة والجدال، والحجة. والنعجة: أنثى الضأن. فقال داود عليه السّلام بعد إقرار المدعى عليه بالدعوى: لقد ظلمك بهذا الطلب، وطمع عليك. وإن كثيرا من الشركاء في المال ليعتدي ويستطيل بعضهم على بعض، إلا من آمن بالله وخاف ربه، وعمل صالح الأعمال، وهؤلاء المؤمنون الصالحون قلة، وشعر داود وعلم أنما اختبرناه وامتحناه، بهذه الواقعة، فاستغفر ربه لذنبه وهو سوء ظنه بالخصمين، وأنهما أتيا لاغتياله، لوقوع اغتيالات في أنبياء بني إسرائيل، وخرّ ساجدا، وعبّر بالركوع عن السجود، لأن القصد منهما التعظيم، ورجع إلى اللّه بالتوبة من ذنبه.
والعرب تعبر بالظن عن المعلومات الناجمة من غير الحواس، ولا يستعمل الظن بمعنى اليقين التام البتّة، كما ذكر ابن عطية في تفسيره.
فغفر اللّه له سوء ظنه، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإن له عند ربه لقربى ومكانة رفيعة وحسن مرجع في الآخرة وهو الجنة.
يا داود إنا جعلناك حاكما بين الناس في الأرض، فاقض بين الناس بالعدل، ولا تتبع أهواء النفس أو مطامع الدنيا، فيوقعك ذلك في الضلال والانحراف عن الحق، إن الذين يحيدون عن طريق الحق والعدل، لهم عقاب شديد يوم القيامة، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم وتركهم الاستعداد له. والمقصود من ذلك تنبيه الحكام والقضاة على الحكم بين الناس بالحق والعدل.
التمييز في الحساب بين المصلحين والمفسدين:
قد تكون كثرة النعم منسية شكر المنعم، إذا كان الإنسان غارقا في الأهواء والشهوات، ممعنا في الكفر والضلال، بعيدا عن إشعاعات وأنوار الهدي الإلهي، خالي القلب من الإيمان وتوجيهات القرآن، ومن هنا لا غرابة أن يظن الكافرون أن خلق السماوات والأرض إنما هو باطل لا معنى له، كما ينسون النعم الدائمة، المعطاة لهم من أرزاق وخيرات، وقوة وعافية، ووعي وتفكير، وعلم ومعرفة وغير ذلك. ويترتب على هذا أنه لا مساواة في الحساب بين الجاحدين والمفسدين، وبين المؤمنين والمصلحين، وعلى الجميع أن يطلبوا الإيمان والتقوى من كتاب اللّه العزيز، قال اللّه تعالى واصفا هذه الأحوال:


{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)} [ص: 38/ 27- 29].
هذه الآيات واردة بين قصتي داود وسليمان، عظة لأمة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ووعيدا للكفرة بالله تعالى.
أخبر اللّه تعالى أن الذين كفروا يظنون أن خلق السماوات والأرض وما بينهما، إنما هو باطل لا معنى له، وأن الأمر لا يؤول إلى ثواب وعقاب، فرد اللّه تعالى عليهم مكذبا ظنهم، ومتوعدا إياهم بالنار، فالله تعالى لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثا لا حكمة فيه، أو لهوا ولعبا، وإنما خلق ذلك للدلالة على قدرته العظيمة، ومن أجل العمل فيهما بطاعته وعبادته وتوحيده، كما قال الله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 51/ 56].
ثم أخبر اللّه تعالى عن كذب ظن الكافرين، وتوعّدهم بالنار، أي إن ظن الذين كفروا بأن هذه المخلوقات العظمى خلقت عبثا لغير غرض، فلا قيامة ولا حساب، هو ظن خطأ كاذب، فيا هلاك هؤلاء الكافرين في النار يوم المعاد والنشور، جزاء ما قدموا من الشرك والعصيان، وجحود نعم اللّه تعالى، وإنكار البعث.
وأبان اللّه تعالى الفرق في الحساب عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات وبين المفسدين الكفرة، وبين المتقين والفجّار، فليس من العدل والمعقول والحكمة التسوية بين الفريقين. والمعنى: بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه، وأصلحوا أعمالهم، فأدوا الفرائض والواجبات على وجه متقن، كالمفسدين في الأرض بالمعاصي والجحود، أم نجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين والعصاة؟ ليس ذلك حقا ولا عدلا، ولا حكمة ولا نظاما سويا.
وفي هذا البيان والتفرقة بين الفريقين حض على الإيمان وترغيب فيه، ووعيد للكفرة والجاحدين. ونظير الآية كثير في القرآن المجيد، مثل قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 68/ 34- 36].
ثم أحال اللّه تعالى في طلب الإيمان والتقوى، على كتابه العزيز بقوله: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ} أي هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا، إن طريق السعادة الأبدية: هو اتباع القرآن الذي أنزله اللّه هدى ورحمة للمؤمنين، وهو كثير الخير والبركة، فيه الشفاء النافع لمن تمسّك به، والنجاة لمن اتبعه، وقد أنزله اللّه تعالى للناس للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر وإمعان، وليتعظ أهل العقول الراجحة به وببيانه. وقوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا} أي لتتدبروا آياته.
قال الحسن البصري رحمه الله: واللّه ما تدبّره بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل.
وفي هذه الآية اقتضاب وإيجاز بديع، كإعجاز كل القرآن العزيز. ووصف القرآن بالبركة، لأن أجمعها فيه، فهو يورث الجنة، وينقذ من النار، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا، ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة.
وظاهر هذه الآية يقتضي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن، فالترتيل أفضل من أجل هذا، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل، والترتيل وسيلة لفهم المعاني، والاتعاظ بالأحكام، والاسترشاد بالهدي القرآني، وحمل الإنسان على الاتباع والالتزام، وترك هجر القرآن، كما عليه حال بعض الناس اليوم.
والآية أيضا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، والمعرفة تقود إلى الاتباع، قال الحسن البصري: تدبر آيات الله: اتباعها.
إن من أجلّ مقاصد القرآن إصلاح الحياة الإنسانية، بإصلاح الفرد والجماعة، وإصلاح الروابط والعلاقات في جميع مجالاتها وأنواعها.
نعم اللّه تعالى على سليمان عليه السّلام:
أفاض اللّه فيض نعمه السخية على سليمان، كما أفاض على أبيه داود عليهما السّلام، واستمرار هذا الفيض الإلهي يقتضي أن يشكر المحسن، ويتعظ المسيء بما يجده في قصتي داود وسليمان عليهما السّلام من عبر وعظات، فإنهما جمعا بين الملك العظيم في الدنيا، والنبوة والرسالة، ولم يمنعهما ذلك الملك من شكر اللّه وعبادته وطاعته، فهل لقريش وغيرها من الزعامات أن يجدوا في هذه القصة ما يحملهم على شكر المنعم، وعبادته؟ قال اللّه تعالى:

1 | 2 | 3